مَعْذِرَةً يا مكِّي؛ فقد أسَأْتُ الظنَّ بك
مَعْذِرَةً يا مكِّي؛ فقد أسَأْتُ الظنَّ بك
أسمُرُ كعادتي مع جُلسائي، في كلِّ ليلة يُؤنِسُني واحدٌ منهم. كنتُ صغيرًا لا أمَلُّ من سماعهم. أسافرُ معهم إلى عالم جميل من الخيال والذكريات. أطربُ "للزَّوْزَنيِّ" حينما يقف مع "طَرَفَة". أرحل معه على ناقته. أجتازُ مفاوزَ روحي، أُنِيخُ راحلتي عند باب "زهير" لأرتوي من نبع حكمته. حتى إذا ما اشتدَّ العود وأخذتني نَشْوَة الشعر، صَبَتْ نفسي وسافرت إلى ساحات معارك "ابن كلثوم" فَشَرِبَتْ ماءَ العزِّ صفوًا ، و"يَشْرَبُ غيرُها كَدرًا وطينًا".
هكذا كنتُ أقضي لياليَ الصِّبا. أتَصَعْلَكُ مع "الشَّنْفَرَى" حينًا، وأقطع الطريق مع "ابن الورد"، وآنسُ بصحبة "تأبَّط" و"السُّليك" أحيانًا. أذهلتني عبقريةُ "لَبِيد" كيف استسلمتْ لنور التوحيد ولَبِسَتْ "من الإسلام سِربالًا" . دوحةٌ من الآداب، ثُلَّةٌ من الأصحاب، صاحَبْتُهم حينًا وحينًا.
وبين تلك الرياض اليانعة أمضيتُ رَدْحًا من سنيِّ عمري، بين "الدَّخول" فـ"ـحَوْمَل" وعيون " عبلة "بــ"الجواء". رأيتُ نورًا يَشِعُّ من ثرى تلك الديار، نُسِجَتْ خيوطُه على الرمال، نورٌ يدعو إلى التحرر من رق العبودية، عبودية الزمان والمكان، عبودية الأصنام والأوثان، عبودية المرأة والقبور، عبودية الأحجار والأشجار، نورٌ يدعو إلى التحرر من كل عبودية بتحقيق العبودية للواحد الأحد جل في علاه. إنَّه نور القرآن الكريم.
أدخلَ هذا النور على قلبي أصحابًا جُدَدًا. بدأوا يأخذون مساحات واسعة من يومي وليلتي. وفي إحدى أمسياتي جلستُ مع أحدهم، أتأملُ سطورَ "رعايته" التي حبَّرها بدقة وإتقان. عشت معه سويعات لذيذة. وفجأة توقفتُ قليلًا في ذهول، سمعتُ كلامًا استغربتُه، بل أنكرتُه، ولعلي غفر الله لي أسأتُ الظنَّ بصاحبه.
حدثني صاحبي أنَّ قارئ القرآن وطالبَه يحرم عليه أن يتلقى القرآنَ من شيخ غيرِ عارفٍ بوجوه النحو والإعراب. حَسْبُكَ يا مكيُّ! ما هذا الذي تقول؟! كأنِّي به يَهْمِسُ في أذني طالبًا مني عدم مقاطعته. واصلَ حديثَه؛ لِيُعَلِّلَ ما استغربتُه. وما أجملَه من تعليل!. انقطعتْ أوهامُ سوءِ ظنِّي به. وغادرتْ قلبي بلا رجعة. حدثني أنَّ من يقرأ على شيخ غيرِ عارفٍ بوجوه النحو والإعراب قد ينسى الطريقة التي تَلَقَّى بها اللفظة القرآنية عن شيخه. وهنا سيرجع إلى أحد أمرين: إمَّا إلى التحزير. وهذا لا ينبغي بل ولا ويجوز في كلام الله. وإمَّا أن يأوي إلى ركنٍ شديدٍ؛ قاعدةٍ نحوية تضبط له وجهَ إعرابِ اللفظةِ القرآنية، فلا يتردد في أدائها على الوجه والجادة.
كأنَّه أراد أن يقول لي: إنْ كنتَ شاكًّا فيما أقول؛ فجَرِّبْ ألَّا تقفَ عند رؤوسِ الآيِ التي اعتدتَ الوقوف عليها. فاقرأ وصلًا؛ وسيتبين لك ذلك.
استأذنتُ صاحبي في إغلاق كتابه. استلقيت على ظهري. أغمضت عينيَّ. تَمْتَمْتُ بحروف سورة الطارق، محاولًا عدمَ الوقوفِ حيثُ اعتدتُ الوقوف؛ لأنظر في مدى قدرتي على إعراب الألفاظ القرآنية وأدائها على الوجه والجادة. وكانت المفاجأة صادمة والنتيجة مذهلة.
"الطارق" "الطارق" "الثاقب" "حافظ" "خلق" "دافق"... يا الله! كيف أعرف ضبط هذه الكلمات؟! لا بدَّ من قاعدة آوي إليها، تحفظُ لساني من لَوثَةِ اللحن، وتقيني شرَّ العَبَث في كلام الله. لقد كنتَ محقًّا يا مكيُّ.
يا طالب العلم؛ جَرِّبْ أنْ تقرأ دون توقُّفٍ على ما اعتدتَ الوقوف عليه؛ فإنْ أحسنتَ القراءة فبها ونعمت. وإنْ لم تحسن فأقبل بقلبك على النحو؛ فالنحو والإعراب ليس زينة وحلية بوسعك أن تستغني عنه. ولئن كان آلة ووسيلة، فللوسائل حكم المقاصد.
قِلاعٌ وحصون
"قلاعُهم مُحَصَّنَة، وثغورُهم مَنِيعَة. كيف السبيل إليها؟. ثمة ثغرٌ هو بوابةُ الضعف، ومفتاحُ النصر. أجلِبوا عليه بخيلكم ورَجْلِكم. دونَكم إياه، لا يَفُوتَنَّكم. ما دام قويًّا فلن تصلوا إليهم. ثغرٌ سيوصلكم إلى كل الثغور. حصنٌ إذا سقط في أيديكم فأبشروا بسقوط مجدهم، وأفول نجمهم".
كلماتٌ تَرَدَّدتْ في أرْوِقَة عقولهم، وزوايا فِكرهم. كانت حُلمًا بعيد المنال، وضَربًا من الخيال.
"فَلْنَنْسِجْ خيوطَ مؤامرتِنا، فالفرصةُ سانحة، وطيرُهم بارحة".
"أمةٌ تَستمد قوَّتها من الوحي الكريم، ومن هَدْيِه القَويم. أنَّى لكم أن تطمسوه؟! فدونه خَرْطُ القتاد. هو حصنُها الحصين وركنها الركين. ما دامت متمسكة به. ولا سبيل إلى إقصائه. الثغرَ الثغرَ؛ أسقطوه. فإنْ سقطَ فلا حاجة إلى إسقاط حصنها الحصين، وقرآنِهم الكريم. سيصير ترانيمَ تُقرأ، وتراتيلَ تُسمع، ولا قلبَ يَتَّعِظ، ولا لسانَ يَنزَجِر، ولا جوارحَ تَرْعَوِي. فقد قطعتم المدد عن قلوبهم. ستمرُّ بهم آيات الجحيم وآيات النعيم على حد سواء. لن يخافوا من "سَقَر"، ولن ترهبَهم "لظى". لن يشتاقوا إلى النعيم، ولن يَتقوا الحميم. كل هذا سيتحول إلى طلاسم، تَجْثُم على أسماعهم، دون ثمرة. سَتَضِل الأفهام، وسَتَزِل الأقدام. وسيخبطون خَبْطَ عشواء، وستصبح أفئدتهم هواء".
أرعبتني كلماتهم، واستفزتني عباراتهم. سافرتُ بفكري أفتشُ بين حصون أمتنا المجيدة عن ذلكم الحِصن، وعن ذاك الثغر. تأملتُ طويلًا وفكرتُ مليًّا. قلاعُنا مستهدفة، وحصونُنا تحاول عبثًا صدَّ شظايا الفتن. فأيُّ ثغرٍ هذا الذي هو سبيل إلى أعظم الثغور؟!.
قرأتُ سيرَ "المستشرقين"، أو "طلائعَ المدَمِّرين"، قَلَّبْتُ صفحاتِ أفكارهم. قرأتُ سطور أجندتهم الخفية في طرح أذنابهم مطلعَ القرن المنصرم. هالني حجمُ تلك الحملة على لغتنا الجميلة، عشتُ مع أباطيل "شاكر" وأسماره الليالي ذوات العدد. لمَ هذا الإقصاء؟! ألهذا الحد أقَضَّتْ سلامةُ مخارجِ أصواتها مضاجعَكم، وأقلقَ جرسُ إعرابها مسامعَكم، وأَتْعَبَتْ دِقَّةُ صَرْفِها عقولَكم، وحيَّرتْ عوالمُ دلالتِها أفهامَكم؟!.
استوقفتني تلكم اللغة التي يُقرأ بها الكتاب المقدس في بِيَعِهم وكنائسهم. للحظة أدركتُ أنَّ الأمر دبِّر بليل. لِمَ هذه اللغة التي لا يفهما أحد منهم؟! قلت في نفسي: أرادوا قطع صلة الناس بكتابهم على ما فيه من تحريف. فماذا هم صانعون بلغة كتابنا العظيم؟!.
لغتنا العربية وعاءُ الوحي، ووسيلةُ فهمِه. لغة الشرع ولسان الخطاب، ونور الألباب. قوتُها استمرارٌ للصلة القوية بيننا وبين الوحي. وضعفُها ضعفٌ لعلاقتنا وتَعَلُّقِنا بالوحي.
حافظوا على مَنَعَةِ هذا الحصن وقوته. حَصِّنوه، رَمَّموه، تعاهدوه. وإياكم أن تهجروه، فيصيرَ خرابًا، يَعبَثُ به كلُّ ناعق، ويدخلُه كلُّ طارق. حتى لا تستفيق الأمة على جيل، لا يحسن قراءة النور المبين، ويَسْتَعْجِم عليه فَهْمُ سبيلِه المستقيم، ويسقط عند أغاليط خصومِ سُنِّة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم. يَسمع كلامًا لا يفهمُه. لا يُحَرِّكُه نحو الجنان، ولا يُحَذِّرُه من النيران. والله المستعان.
والدي الحبيب
عبثاً حاولتُ حبسَ الكلمات، أهربُ منها كلَّ ليلة، كلَّ ساعة، كلَّ لحظة. كلما مرَّ بي طيفُه وخيالُه، أغرقُ في بحر من الدموع التي أحاول تجفيفها قبل أن تخرج...
كسرتُ أقلامي ومَزَّقتُ أوراقي؛ هرباً من تلك الكلمات، ولكني لم أستطع حبسَ أنفاسٍ أبَتْ إلا أن تبوح؛ لِتُسطرَ على جدار القلب سيلاً من العبارات والمشاعر. هي أصدق من كلمات مُتَمِّم، وأبلغُ من مراثي الخنساء. لم تُكتب في ديوان، ولم يُسَطِّرها من قبلُ بنان.
والدي الحبيب:
ما كنتُ أظن أنَّ طعمَ حنظلِ الفراق مُرٌّ إلى هذا الحد إلا يوم رحيلك إلى الدار الآخرة.
والدي الحبيب:
لم أرْتَوِ بعدُ من نبعِ حنانِك الصافي. ولم أكملْ بعدُ الجَرْيَ في ربوع قلبك الحنون؛ فلا زلتُ طفلاً يحتاج إلى أبيه.
والدي الحبيب:
في كل زاويةٍ من زوايا روحي لك طَلَلٌ سأظلُّ أبكي عنده كلَّ لحظة وكلَّ حين.
والدي الحبيب:
مصحفُك وحمَّالتُه، وكرسيُّك وكُتيِّبُ أذكارِك رسومٌ لن تندرسَ من ذاكرة قلبي.
والدي الحبيب:
صوتُ خطواتك قبيلَ الفجر قادماً نحو المسجد سيظل يطرقُ سمعَ قلبي كلَّ سَحَر.
والدي الحبيب:
سيظل همسُ حروفِك بسورة المُلك على فراش الموت محفوراً في ذاكرة سمعي وقلبي.
والدي الحبيب:
أعتذر منك إن كان الماء الذي غسلتك به حاراً فقد امتزجَ بدموعٍ باتتْ تتقلبُ على جَمْرِ الفراق ولم أستطع إطفاءَها.
والدي الحبيب:
رحلتَ مُخَلِّفاً وراءك سُنَّةً نَصرتَها وأحييتها حيًّا وميِّتًا. رحلتَ تاركاً وراءَك ذكراً عَطراً، ودموعاً صدرتْ من قلوب تفطرتْ حزناً على فراقك.
والدي الحبيب:
رحلتَ عن دنيا الأكدار والأحزان بعد رحلة قصيرة مع مرض أتعب أنفاساً لم تعرف إلا الحمد والثناء على الله إلى لحظاتها الأخيرة.
والدي الحبيب:
رحلتَ بعد أن كان آخرُ عهدك بهذه الدنيا صلاةَ العشاء ثم خلوتَ بنفسك سويعات وبعدها غادرتَ بصمتٍ وسكينة، ودون وداع.
والدي الحبيب: كنتَ في حياتك خفيفًا، تمرُّ كالطيف، لا تؤذي أحداً، ولا تثقل على أحد؛ عزيزَ النفس. وهكذا كان رحيلك.
والدي الحبيب:
كنتُ ولا زلتُ أتمنى أن يكون ما جرى حلماً مزعجا وسينتهي عما قريب وأدعو الله أن أستفيقَ منه بسرعة.
والدي الحبيب:
إلى جنات الخلد والنعيم المقيم. ونرجو الله أن يجمعنا بك مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.